شهد العالم في العقود الأخيرة طفرة تكنولوجية هائلة ألقت بظلالها على مختلف جوانب الحياة، وكان من أبرز تجلياتها في المجال الاقتصادي نشوء ما يُعرف بـ”العملات الرقمية” أو “العملات المشفّرة”، والتي أصبحت تمثل ظاهرة مالية حديثة، أثارت اهتمام المشرّعين والاقتصاديين على حد سواء، لما تحمله من إمكانات واعدة، وما تطرحه من تحديات قانونية وتشريعية تستوجب الوقوف عليها.
أولاً: ماهية العملات الرقمية وطبيعتها القانونية
العملات الرقمية هي وحدات نقدية افتراضية يتم تداولها عبر شبكة الإنترنت دون الحاجة إلى وجود مادي ملموس لها، ولا تخضع لرقابة أو إصدار من قبل السلطات النقدية الرسمية، كما هو الحال مع العملات التقليدية. وتُعد “البيتكوين” أشهر هذه العملات، وقد تبعتها عملات أخرى متعددة مثل الإيثيريوم والريبل وغيرها.
وتثور إشكالية قانونية حول الطبيعة القانونية لهذه العملات، إذ لم تُجمع الأنظمة القانونية المقارنة على توصيف موحّد لها. فبينما تعتبرها بعض الدول أصلًا ماليًا، يراها آخرون وسيلة للدفع، في حين لا تعترف بها بعض التشريعات على الإطلاق، مما يخلق فراغًا تشريعيًا يتطلب معالجة دقيقة.
ثانياً: العملات الرقمية كأداة للتطور الاقتصادي
لا يمكن إنكار الدور المحتمل للعملات الرقمية في تحقيق طفرة نوعية في النظام الاقتصادي، إذ إنها تتيح تسهيل المعاملات المالية العابرة للحدود، وتقليل تكاليف التحويل، وتوفير قدر كبير من الأمان والخصوصية. كما أنها قد تسهم في دمج الفئات غير المشمولة بالخدمات المصرفية التقليدية ضمن المنظومة المالية.
بيد أن هذا الدور الإيجابي يظل مشروطًا بوضع ضوابط تشريعية واضحة، تضمن حماية النظام المالي، وتحقق الرقابة على التداولات، وتحول دون استخدامها في أغراض غير مشروعة.
ثالثاً: الإطار القانوني للتجريم المرتبط بالعملات الرقمية
نظرًا للطبيعة اللامركزية للعملات الرقمية، وغياب الرقابة المؤسسية عليها، فقد أصبحت بيئة خصبة لاستعمالها في تمويل الإرهاب، وغسل الأموال، وعمليات الاحتيال الإلكتروني، والتهرب الضريبي. وقد دفع ذلك العديد من الدول إلى إصدار تشريعات تُجرّم بعض صور التعامل في العملات الرقمية.
وفي السياق المصري، لم يصدر حتى الآن قانون خاص ينظّم العملات الرقمية، غير أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، قد أتاح للسلطة القضائية تجريم الأفعال المرتبطة باستخدام الوسائل التقنية الحديثة على نحو يضر بالاقتصاد القومي أو الأمن العام، وهو ما يمكن أن يُفسَّر على أنه يشمل التعاملات المشبوهة في العملات الرقمية.
كما تجدر الإشارة إلى مشروع قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي، الذي تضمّن نصوصًا تحظر إصدار أو التعامل في أي نوع من العملات المشفّرة دون الحصول على ترخيص من البنك المركزي المصري، وهو ما يمهد الطريق نحو تقنين تلك المعاملات مستقبلاً بضوابط دقيقة.
رابعاً: الحاجة إلى تدخل تشريعي منظم
إن مواجهة التحديات التي تفرضها العملات الرقمية تستلزم تدخلًا تشريعيًا عاجلًا، يوازن بين الاستفادة من مزايا هذه التكنولوجيا المالية الحديثة، وبين درء مخاطرها، من خلال وضع تعريف قانوني واضح للعملات الرقمية، وتحديد الجهات الرقابية المختصة، وإرساء قواعد لمكافحة الاستخدام غير المشروع لها.
خاتمة
إن العملات الرقمية تمثل تطورًا اقتصاديًا لا يمكن تجاهله، لكنها تطرح في الوقت ذاته إشكاليات قانونية متعددة تفرض على المشرّعين سرعة التدخل لإرساء منظومة قانونية متكاملة تضمن حسن استخدامها، وتُخضعها للرقابة، وتُجرّم انحرافاتها. ولا شك أن تحقيق هذا التوازن هو ما سيحفظ للدولة سيادتها الاقتصادية ويعزز الثقة في النظام المالي الجديد.